Thursday, December 7, 2017

هل تُصَلِّي الكنيسة لأجل المُنتَحِر؟

كيف ترى الكنيسة المُنتَحِر؟ هل تصلي لأجل خلاصه أم أن هلاكه محسوم؟
التالي هو ترجمة لرسالة رعوية أصدرتها رابطة الأساقفة الأرثوذكسيون بأمريكا (SCOBA)، فيها توضيح هام وحيوي لبعض مفاهيم الكنيسة الأرثوذكسية بخصوص إقامة الليتورجيا لأجل المُنتَحِر، وبخصوص تطور النظرة الكنسية لهذه القضية، والذي هو ربما العامل الأهم الآن.

نص الرسالة:

]
مايو ٢٥، ٢٠٠٧

ما يلي من "الرسالة الرعوية عن الإنتحار" تم إصداره من قبل مؤتمر الأساقفة الأرثوذكسيون (SCOBA) في جلستهم المنعقدة في مايو ٢٣، ٢٠٠٧ في معهد القديس فلاديمير في كريستوود، نيو يورك.
الوثيقة تم إعدادها من قبل (SMIC) لجنة الشئون الإجتماعية والأخلاقية ل(SCOBA). الرسالة تحمل منظوراً رعائياً، متوافق مع كلا من التقليد المقدس والفكر السايكولوجي والطبي المعاصر، لكلا من الاكليروس والعلمانيين سواء بخصوص هذه المأساة الإنسانية وكيف تتم خدمة هؤلاء المتأثرين بها بأفضل شكل.


الرسالة الرعوية عن الإنتحار
٢٣/٥/٠٧
إن مأساة الإنتحار كانت جزءاً من الرواية البشرية من مرحلة مبكرة جداً، وهي تستمر لتؤثر على حياة المؤمنين اليوم. ونحن، أساقفة المؤتمر الأرثوذكسي القانوني للأمريكتين، نُسأل كثيراً أن نوضح تعاليم الكنيسة عن أمر خطير هكذا.
رغبتنا هي أن نقدم منظوراً رعوياً يتوافق مع كلا من تقليد كنيستنا الأرثوذكسية، وفهمنا المتقدم للعوامل الطبية والسايكولوجية التي يمكن أن تقود شخص ليأخذ حياته، أو تأخذ حياتها.


قدسية الحياة


كمسيحيين أرثوذكس، نحن نؤمن أن الحياة هي عطية من الله. الثالوث كلي القداسة ومعطي الحياة، خلق كل الأشياء وأعطى الحياة لكل الكائنات الحية. اللاهوت، من حبه لنا، خلقنا نحن البشر صورته ومثاله، مؤتمناً إيانا، كرعاة لا ملاك، على حياتنا، مباركاً إيانا بسعة الحرية، داعياً إيانا لحياة من الشركة المُحِبة.

إن تمرد أسلافنا الأصلي تجاه الله كان سوء إستخدام للحرية، مما أدى لواقع من الموت الجسدي والروحي.
على مدار التاريخ، كان الله فاعلاً لخلاص الجنس الساقط وإستعادة شركة الحياة التي تنازل الإنيان عنها. بالفعل، ربنا يسوع المسيح يُعرِّف الهدف لتجسده وإراليته على أرضنا، بأنها هبة الحياة، معلناً "أتيت لتكون لهم حياة، ولتكن لهم بغنى" (يو١٠:١٠)
تظل الكنيسة الأرثوذكسية مخلصة لإنجيل الرب، داعية كل البشر أن يدخلوا في الجسد الحي للمسيح، أن يُحفَظوا بالأسرار الواهبة الحياة، وأن يَحفَظوا وينمّوا كلا من الحياة الروحية والجسدية.


الإنتحار والتقليد الأرثوذكسي



بينما من العسير أن نضع تعريفاً دقيقاً ومحدداً لل"إنتحار"، نقدر أن نقول أن نوع الإنتحار الذي يتم مخاطبته هنا، ينطبق على الإقدام على فعل مؤدي لحرمان الشخص من حياته بشكل مقصود وواعي. عندما نراه بهذا الشكل، فالإنتحار يُعتَبَر، في التقليد الأرثوذكسي، رفض للحياة الجسدية كهبة من الله، فعل منطلق من اليأس، وككسر للوصية السادسة "لا تقتل".

تاريخياً، تم دعوة الكنيسة لمخاطبة قضية الإنتحار من البداية. في بدء الكرازة بالإنجيل، كانت منتشرة في العالم اليوناني-روماني تعاليماً كانت نحتقر الجسد وتُشَجِّع الإنتحار في ظروف الضيق الشديد. الكلبيين، الأبيقوريين، الرواقيين، والغنوصيين، على سبيل المثال، كلهم كانوا يؤيدوا الموت الإختياري لأسباب تتوافق مع الرؤية الأخلاقية لكل مجموعة. الإدانة المُبَكِرة من الكنيسة للإنتحار، كما ينعكس في تعاليم كليمندس السكندري، لاكتانتيوس، ق.أوغسطين، وأخرون، هو كان يُقصَد به التأكيد على تعاليم كانت مختلفة تماماً عن تعاليم الثقافة المحيطة: قدسية حياة كل إنسان، قداسة أجسادنا كهياكل الروح القدس، وبالأخص، دعوة كل واحد منا أن يحفظ الإيمان والرجاء حتى في وسط المحن الشديدة.

بينما هذه التعاليم الرئيسة قدمت شهود مسيحيون للمجتمع اليوناني-روماني، فهي أيضاً كانت تنعكس داخلياً، على أعضاء الكنيسة المُبَكِرة، من خلال إدانة كل محاولات الإنسان لتعجيل دخوله الملكوت عن طريق طلب الإستشهاد. فعلى سبيل مثال، كليمندس السكندري أدان كلا من الإنتحار والإستشهاد بهذه الطريقة، لما كتب: "هذا الذي يقدم نفسه أمام كرسي القضاء يصبح مذنباً بموته الخاص. وهكذا أيضاً هذا الذي لا يتفادى الإضطهاد، ولكن من قبيل التحدي يقدم نفسه للإعتقال. هكذا إنسان...يصبح شريكاً في جريمة المُضطَهِد" (
Stromateis 4.77.1)
غير منكرة موقفها الحاسم ضد السماح بالإضطهاد، الكنيسة، تاريخياً، قدمت تعليماً متزناً بخصوص المسألة. فمن ناحية، حافظت الكنيسة على موقفها المعياري الذي سبق وشرحناه، بإدانة فعل الإنتحار ورفض تقديم الخدمة الجنائزية والدفن لضحايا الإنتحار. هذه البُعد من تعليم الكنيسة أوضح قدسية الحياة الجسدية ومسئولية الإنسان في التعبير عن محبته لذاته، تقديره، ورجاؤه. هذا البُعد أسهم أيضاً كمثبط لأولئك الذين يعانون من أفكار الإنتحار.

ومن الناحية الأخرى، وفي حكمتها، أقرت الكنيسة التعقيد الخاص بأسباب المُنتَحِر، والحالة النفسية الغير مستقرة التي تصاحب الإنتحار.
إن فساد الطبيعة البشرية، الذي أتى نتاج الخطية الجدية، حمل تبعيات جسيمة على كلا من البعد الروحي لشخص الإنسان، والجسدي أيضا.

فوإن كانت حرية الإنسان لم تُنتَزَع بالسقوط، ولكن سواء العوامل الروحية كالفتور الروحي، أو العوامل الجسدية، كالإكتئاب، يمكنها أن تُفقِد الشخص قُدرته علي التفكير بوضوح، وإتخاذ قرار حر. بخصوص الإنتحار، أخذت الكنيسة في إعتبارها هذه الإعتبارات الروحية والجسدية، وإستجابت رعائياً بتقديم خدمة الجناز ودفن، لضحايا الإنتحار الذين كانت قدراتهم على الحكم والتفكير والتصرف، متأثرة، ومنتقصة بشكل كبير.

لذا، فإن القانون الرابع عشر ل(تيموثاوس السكندري) يُقِر أن الخدمات الليتورجية يَجِب أن تُقَدم "إن كان إنسان لا يتحكم في نفسه، أذي نفسه، أو أهلك ذاته حتى" والتفسير الابائي لهذا التعليم يُعلِن أن الخدمات الليتورجية يجب أن تُقام لما يكون ضحية اللإنتحار "ليس في حالة عقلية صحيحة، سواء نتيجة لتأثير شيطاني، أو مرض جسدي ما" (
Question XIV of the 18 Canons of Timothy, Archbishop of Alexandria. Pedalion, p. 898)


الإنتحار والعلم


بالتقدم العلمي، أصبح لدينا الآن فهماً أفضل للعلاقةبين الإنتحار والإكتئاب. الإكتئاب مرض ينتج عن عوامل عضوية وسايكولوجية. ويمتاز بأحاسيس من إنعدام القيمة واللارجاء، وعادةً يُصاحِبه تغير في النظام الغذائي وفقدان للشهية، وفقدان وزن، وفي بعض الحالات، إكتساب وزن وسمنة. وكلا من الأرق، أو الإفراط في النوم، من الأعراض الشائعة.

المعرفة الطبية الحالية تساعدنا أن ندرك أن الإكتئابات متعددة العوامل. العوامل الجينية، الهرمونية، الكيمياء العصبية، البيئة، والعوامل السايكولوجية، كلها يمكن أن تمتزج لتخلق مشهداً باعثاً للإكتئاب. بل وبالأحرى، الإكتئاب يمكن أن يكون التعبير الوحيد المتاح لمرض عضوي كامن كالسرطان، فشل الغدد، أو حتى تأثير لعقار دوائي.
أحياناً أنماط الإكتئاب تكون حادة جداً، وذهانية الطبيعة. هذه الأنماط يمكن أن تصاحبها أوهام، هلاوس، وإحساس مُشَوَه بالواقع. في أغلب الحالات يكون المُكتئب غير مُعَرَض لكل هذا. ولكن في كل الحالات/ الإكتئاب يتحكم فيه أحداثاً داخلية عضوية، أو سايكولوجية غير عقلانية. فيمكن أن شخصاً يبدو صحيحاً وصافي الذهن من الخارج، تكون قراراته متأثرة بقوة بهذه العوامل الداخلية غير المنطقية.




توصية رعوية

في ضوء ما سبق من رؤى لاهوتية وعلمية، من الواضح أن صياغة إجابة أرثوذكسية واضحة لمأساة الإنتحار هو تحدي خاص نحن في أمس الإحتياج إليه. نحن نشعر بأهمية الحفاظ الإتزان بين دعوة كل إنسان أن يكون أميناً على حياته الجسدية، ودعوة الكنيسة أن تنظر للتطورات العلمية والطبية، ومدى تأثيرها علي الخدمة العوية الأرثوذكسية. ووعياً بهذه الحاجة للتمييز، نقدم هذه الخطوط العريضة التالية لخدمة حالات الإنتحار.
أولاً، يجب أن نظل منتبهين لأن التركيز الأساسي للكنيسة وخدمتها الرعوية، في حالات وقوع الإنتحار، هو الأحياء، عائلة المتوفي وأصدقائه. يجب أن يكون لدينا قدراً من الإتضاع ونتذكر أن حالة ضحية الإنتحار الآن هي، وستظل، في يدي الله. أما أقرباؤه، فيحملون حِملاً ثقيلاً من الألم، الذنب، بل وأحياناً الخزي، برؤيتهم أن أحباؤهم قد أنهوا حياتهم بأيديهم.
حينئذ ينظرون إلي الكنيسة، وخاصةً عائلة الإيبارشية، لتمدهم بالقوة والرجاء تجاه المتوفي، ومن أجل دعم وحب هم أنفسهم في أشد الإحتياج إليه.
وبالإضافة لإستجابتهم الشخصية الرعوية، الإكليروس يجب أن يوجه العائلة المنتحبة لمختصين ليساعدوهم.

ثانياً، إذ درسنا المسألة، إتضح لنا حالات من الإنتحار، أكثر كثيراً مما كان يمكن تمييزها في السابق، تتضمن عوامل روحية/سايكولوجية مما تُفقِد الشخصعقلانيته وحريته. بينما لا ننزع المسئولية الأخلاقية عن كل حالات الإنتحار، أو نغير موقنا العام ضد السماح بالإنتحار، ولكن نحن نؤكد العلاقة القوية والعميقة بين العوامل النفسية والجسدية في المركب الإنساني، ونقر بأن في أغلب الحالات، تشابك المؤثرات المؤدي للإنتحار يتجاوز قدرتنا على الفهم الكامل.
أخيراً، بسبب هذا التعقيد في مسألة الإنتحار، ففي كلا من العوامل المؤثرة، وخدمة المتأثرين، يجب على الكاهن أن يتشاور مع أسقفه ليوضح له المسار الملائم للتصرف، التوصية الرعوية عموماً أن الدفن الكنسي والخدمة الليتورجية يجب أن تُعطى، إلا في حالة غياب تناقص واضح لقدرات المُنتَحِر.




ختاماً


في وصفه الجميل للكنيس ك"جسد المسيح" يكتب القديس بولس: "إن كان عضو يتألم، الكل يتألم معاً. إن كان عضو يُكرَم، الكل يَفرَح معاً" (1كور 12:26). إنتحار إنسان مسيحي أرثوذكسي هو مأساة تصيب الكنيسة كلها. كأساقفة الكنيسة الأرثوذكسية، نحن واعون بالإحتياج لتقديم رؤية للإنتحار تتناسب مع هويتنا وإرساليتنا كجسد المسيح المُتَحِّد.
نحن نؤمن أن المنظور المُقَدَّم في هذه الوثيقة، والذي يعكِس رأينا المُجتَمِع، يؤدي هذا الغرض بالجمع بين الإستقاء من التقليد المقدس، كما يتعمق في فهم حالات المُنتحرين.

نُقَدِم صلواتنا الصادقة لضحايا الإنتحار وكل الذين إهتز إيمانهم وحياتهم بإنتحار محبوب لديهم. أيضاً، كأساقفة أرثوذكسيون نؤكد أننا سنعمل سويةً بكل جهدنا لمنع حالات الإنتحار من الوقوع، ولنقدم إستجابة رعوية موحدة في حال وقوعها، تكون تمتاز بالإيمان، والرجاء، والحب، الذي بالله صار ممكناً، الذي فيه "نحيا ونتحرك ونوجد"



http://www.assemblyofbishops.org/news/scoba/2007-05-25-letter-on-suicide

Tuesday, November 21, 2017

حياته لي


أيها الروح القدس، الملك الأزلي
يا معطي الحياة غير القابلة للفساد
إنظر برحمةً غير منتهية
على نقائص طبيعتنا.
أنرنا وقدسنا.
دع نور معرفتك
يشرق على قلوبنا المظلمة.
وفي الأواني الترابية لطبيعتنا
لتتجلى قدرتك الفائقة.


الصلاة هي الخلق بلا إنتهاء، هي الفن المطلق. أكثر فأكثر نختبر الشوق إلي الله، فقط ليتبعه سقوط من نوره. مرةً فمرة نعي عدم قدرة العقل على الإمساك به. تأتي لحظات نشعر فيها وكأننا على حافة الجنون. ’أنت أعطيتني قانون حبك ولكنني لا أملك قوة لأحب. تعال وتمم فيّ وصيتك، لأنها أكثر من إستطاعتي. إن عقلي هش جداً ليدركك، ونفسي لا تقدر أن ترى أسرارك. أيامي تمر في صراع لانهائي. أنا مُعَذَّب بخوف فقدانك، لسبب الأفكار الشريرة التي في قلبي‘

أحياناً تلوح لنا الصلاة فنصرخ ’أسرِع إليَّ يا رب‘ ولكن إن لم نترك طرف ثوبه، تأتي المعونة. فلهو حيوي أن نسكن الصلاة، لنضاد العمل المُدَمِّر، والدائم، لتأثير العالم الخارجي علينا.

الصلاة لا تُخفِق في إحياء، بداخلنا، النفس الإلهي الذي تنفسه الله ي أنف آدم، والذي بحسبها صار آدم (نفساً حية). فتبدأ نفوسنا المتجددة في العجب من سر الوجود المتسامي، وفي قلوبنا أصداء تسابيح المُزّمِّر لله عن كل تدابيره.
حينئذ نفهم كلمات المسيح ’أنا أتيت لتكون لهم حياة، ولتكن لهم حياة أكثر‘

ولكن هذه الحياة مليئة بالتناقض، ككل تعاليم الإنجيل. ’لأني جئت لألقي ناراً على الأرض، فماذا أريد، إن بالفعل إضطرمت؟‘. فإن لم نجتز هذه النار التي تأكل الأهواء المفسدة الطبيعة، لا نرى النار تتحول إلي نور، لأنه ليس النور يأتي أولاً، ثم النار، ولكن في حالتنا الساقطة لابد أن الإحتراق يسبق الإستنارة. فدعونا، إذاً، نبارك الله لأجل هذه النار الآكلة.
نحن لا نعلم بالكلية، ولكن على الأقل نعن نعرف ’جزئياً‘ أنه لا طريق أخر لنا ،نحن الفانون، لأن نصير ’أبناء القيامة‘، لأن نَملُك مع المسيح.

فوإن كانت مؤلمة (إعادة الخلق)، وإن كانت مرهقة وجارحة، بل ومُعَذَّبة هذه المسيرة، فإنها مُبارَكة. فإن كان إقتناء المعرفة يتطلب جهادات كثيرة، فإن إقتناء الصلاة بأكثر جهادات يُطلَب.
عندما تصير الأناجيل وكتابات الرسل (حقيقية) لنا، نرى كم كانت ساذجة كل تصوراتنا عن الله وعن الحياة فيه، إذ أن الحقيقة تتجاوز كل تصورات الإنسان. ’عين لم ترى، ولا أذن سمعت، ولا دار بقلب إنسان، ما أعَّدّه الله لأجل الذين يحبونه‘ فإن همسةً من المجد الإلهي تفوق كل الحياة بعيداً عن الله.
ضيق هو الطريق، شائك وملئ بالأسى. إننا لنحتمل التنهد الكثير ونحن سائرون.  الخوف الذي لا مثيل له، والذي هو بدء الحكمة، سيتعلق بقلوبنا وسيحول وجودنا من الخارج إلي الداخل، ليُرَكِّز إنتباهنا على ما يحدث في الداخل. غير قادرين على إتِّباع المسيح، نتوقف في رهبة لأن ’المسيح تقدم التلاميذ، وإذ تبعوه، كانوا خائفين‘
لا أحد منا يقدر أن يهرب من المعاناة إن كنا نولد بحياة جديدة في الله، إن كنا نحوِّل جسدنا الطبيعي لجسد روحي. كما قال ق.بولس ’جسد طبيعي يُزرَع، ينمو جسد روحاني‘. وحدها قوة الصلاة تغلب مقاومة المادة وتحرر نفوسنا من هذا العالم الخامل، العَجِز، لمساحات واسعة مفتوحة مضيئة بالنور.

إن العقل تَغَرَّب بالتجارب التي تقع علينا في جهادنا للصلاة. ليس من السهل أن نتعرف على أسبابها ومصدرها. حتي ندخل إلي ’مسكن الله‘ يمكننا أن نكون مترددين، غير واثقين إن كانت أعمالنا تسر القدوس. إذ أننا لسنا فوق الخطأ، فيمكن أن نفتكر أن بسبب أخطائنا نتعرض للعواصف التي تلاحقنا، مع أنن كان القديس بطرس ذَكَّر المسيحيين الأوائل، في يأسهم، ان ’روح المجد‘ حل عليهم.

شيئاً واحداً فحسب هو غير المعرَّض للشك، أنه ستأتي ساعة وتختفي كل ضيقاتنا وتنتهي. ثم سنري، حينئذ، أن أكثر فترات حياتنا ألماً، كانت أكثرها إثماراً، وستصاحبنا حتى خارج حدود هذا العالم، حتى تكون أساسات الملكوت الذي ’لا يتزعزع‘
إن الإله كلي القدرة دعانا من العدم. بالطبيعة نحن من العدم، ولكن ومع ذلك  نحن ننتظر إكراماً من الله. وفجأةً، يكشف القدوس نفسه في إتضاع بلا حدود. إن الرؤية تُغرِق كياننا ووجودنا كله، فبشكل تلقائي، ننحني في إفتتان. وحتى هذا لا يكون كافياً، فمهما تواضعنا نحن أمامه، لا نضاهي إتضاعه.

إن الصلاة لإله الحب والإتضاع هذا، تصعد من أعماق وجودنا. عندما يمتلئ قلبنا بحب الله، نعي، بوضوح، قربنا منه، وإن كنا ندرك جيداً أننا ما إلا تراب.
فإن في الشكل الظاهر لطبيعتنا، يصف، الإله الذي له عدم الموت، وجوده الذي لا يُرىَ، وهكذا نمسك بالأبدية. بالصلاة ندخل الحياة الإلهية؛ والحياة غير المخلوقة التي تتخللنا، هي أن الله يصلي فينا.

بخلقنا صورته، على شبهه، وضعنا الله أمامه، لا كفعل من أفعاله، خاضعين تماماً له، ولكن ك(حقيقة) حتى بالنسبة له، ككيانات حرة. ولأجل هذا، فالعلاقة بين الله والإنسان مؤسسة على مبدأ الحرية. عندما نستغل هذه الحرية ونخطئ، فنحن ندفع الله جانباً.
هذه الحرية لنتحول بعيداً عن الله هي الجانب السلبي، المأساوي، للإرادة الحرة، ولكنها جزء حيوي إن كنا مزمعين أن نقتني الحياة، التي هي بالحقيقة، إلهية، الحياة التي هي ليست مُقَدَّرة.
لدينا الإختيار بين نقيضين: إما أن نرفض الله، وهذا هو جوهر الخطية، أو أن نصبح أبناء الله. لأننا مخلوقين في صورة الله، فنحن بطبيعتنا نشتاق للكمال الإلهي الذي في أبينا. وعندما نتبعه نحن لا نخضع لتسلط قوة خارجية، ولكن نحن نطيع ميولنا لنحقق كماله.
’كونوا كاملين لأن أباكم الذي في السماء هو كامل‘


أبانا الذي في السماء،
ليتقدس إسمك
أنت أعطيتني أن أقتبل قداستك، ومسرتي أن أكون مقدس فيك.

ليأت ملكوتك
لتأت حياتك الجيدة عليّ ولتدخُل فيّ

لتكن مشيئتك
في أرض وجودي المخلوق، كما في السماء، في ذاتك، منذ الأزل.

أعطنا خبزنا اليومي
الخبز الحقيقي الذي ينزل من السماء، ويعطي حياةً للعالم

وأغفر لنا خطايانا، كما نغفر للذين يخطئون لنا
بالروح القدس أعطني أن أغفر للأخرين، فلا يمنع شئ قبولي لغفرانك.

لا تدخلنا في تجربة
أنت تعلم إعوجاجي، أني دائماً في إستعداد أن أخطئ. إرسل ملاكك ليقف في طريقي خصم، لما أوشك على الخطأ.

لكن نجنا من الشرير
خلصني من قوة العدو المميت، خصم الله والإنسان.



في البداية نُصَلّي لأنفسنا، ولكن لما يعطينا الله، بالروح القدس، فهماً؛ تأخذ صلاتنا أبعاداً كونية. ومن ثم، لما نصلي ’أبانا الذي‘ نحن نفكر في البشرية كلها، ونطلب ملء النعمة للكل كما لأنفسنا. ليتقدس إسمك بين كل إنسان. ليأت ملكوتك على كل الشعوب، ولتصبح حياتهم هي الحياة الإلهية. لتكن مشيئتك: لأن مشيئتك وحدها هي التي توحد الكل في حبك. خلصنا من الشرير، من القاتل الذي، شرقاُ وغرباً، يزرع عداوة وخصومة وموت.
إذ أن بحسب فهمنا المسيحي، الشر كالخير، لا يوجد إلا مع نمط شخصاني من الوجود. بدون هذا النمط الشخصي، لا يكون شر، ولكن فقط عمليات طبيعية.

إن مشكلة الشر في العالم عامةً، وفي الإنسانية خاصةً، تطرح تساؤل عن مدى إشتراك الله في حياة الجنس البشري تاريخياً. كثيرون يفقدون إيمانهم لأنه يبدو أنه، لو كان الله موجوداً، لما أمكن للشر أن يوجد بهذا الجموح، ولما كان هناك إنتشار مريع بهذا القدر للمعاناة. إنهم ينسون أن الله يُقَدِّر حرية الإنسان، التي هي المبدأ الأساسي لخلقته على الصورة الإلهية. فَتَدَخُّل الخالق، لما ينحاز الإنسان للشر، يُعَّد حرماناً للإنسان من إمكانية تحديد الذات، وسيكون مُدّمِّراً له تماماً. ولكن الله يُخَلِّص أشخاصاً وأمماً إن إختاروا السير في طريقه.

قال المسيح ’لم آت لأرسل سلاماً، ولكن سيف‘ و’فرقة‘. المسيح دعانا لحرب على مستوي الروح، وسلاحنا هو ’سيف الروح، الذي هو كلمة الله‘. معركتنا غير متكافئة، بشكل غير معقول. فنحن مقيدي الأيدي والأقدام. نحن لا نجرؤ أن نضرب بسيف أو نار: ذريعتنا الوحيدة هي الحب، حتى من نحو الأعداء. هذه الحرب، التي بلا مثيل، التي نحن منغمسون فيها هي حرباً مقدسةً بالفعل. نحن نصارع مع عدو الإنسان الوحيد، والأخير، الموت. وصراعنا لأجل القيامة التي ستشمل الكون كله.

الرب برر وقدس أجداده بحسب الجسد. هكذا أيضا، كل منا، إن تبعنا المسيح، نقدر أن نبرر أنفسنا في وجودنا الشخصي، بإستعادتنا الصورة الإلهية من خلال التوبة الكليّة، وبهذا نقدر أن نشترك في تبرير أجدادنا وآبائنا. فنحن نحمل في أنفسنا ميراث خطايا كل أسلافنا؛ وبفضيلة الإتحاد الأنطولوجي لكل الجنس البشري، الشفاء لنا يعني الشفاء لهم أيضاً. نحن متصلون بحيث لا يقدر إنسان أن يخلِّص نفسه وحده.

لقد وجدت ان رهبان الجبل الُقَدَّس فهموا هذا جيداً. الراهب هو إنسان كرّس حياته لله؛ وهو يؤمن أنه إن أردنا أن يكون الله معنا وفينا للكمال، لابد أن نعطي أنفسنا له كليّةً، وليس جزئياً. الراهب يزهد في الزواج وإنجاب الأطفال لكي يراقب ويحفظ وصايا المسيح، بقدر الإمكان، حتى الكمال. إن لم يحقق الراهب هدفه، أن يحيا حياته على الأرض في الروح مشاركاً المسيح، فإن رهبنته لم تبدأ بعد. بكلمات أخرى، هو لا يشارك في إستمرار الجنس البشري، بإنجاب أطفال، ولا يشارك في إمتداد الخلود بالإشتراك في أبدية القيامة؟
إنه يسقط من من البعد التاريخي، بإمتناعه عن أن يأخذ موقفاً إيجابياً تاريخياً، أو سياسياً، في خين أنه لا ينتقل وجودياً إلي البعد الروحاني، الفوق تاريخي. وبعدم تحقيق أي إنتصار على المستوي الكوني للحرب الروحية، مع الموت، فهو لا يعين إخوته البشر ليقتنوا التدبير الإلهي.
ولكن، على أي حال، وإن كان الراهب يمكن ألا يصل للكمال المسيحي، فصراعه، برغم كل ذلك، يساعد كل البشرية.

أيها الثالوث القدوس، الآب، الإبن، الروح القدس.
الإله الوحيد، والحقيقة الوحيدة.
كلي القدرة والحياة
يا من وحدك تعطي القوة للمتعبين
وتحفظ الضعيف
يا من، لولاك، يضعف القوي
ويُحنى الثابت
الشباعي سيجوعون
والشُيان الأقوياء يُثنون.
إسمعنا في تضرعنا
وأقمنا لنستحق أن نخدمك
نحن نخاطبك، أسرع لسماعنا وإرحمنا.



عندما يُعطىَ الروح القدس، بالنعمة، للإنسان، ,يُحضِره لإنسان كامل، لقياس قامة ملء المسيح‘، هذا التدبير ينعكس، ليس فحسب على مصير كل الإنسانية، ولكن تأثيره يتجاوز قيود التاريخ وينعكس على كل الحياة الكونية، لأن العالم نفسه خُلِق للإنسان.
عندما نتحول بعيداً عن الدرب الذي حدده المسيح، الذي هو تأله الإنسان بقدرة الروح القدس، كل معنى وجود الإنسان في العالم يختفي.


Archimandrite Sophrony Sakharov (2001) (2nd ed.) His Life is Mine. Chapter 8: The Struggle in Prayer. New York: St Vladimir’s Seminary Press.

Sunday, July 16, 2017

Orthodox Tradition


سلسلة فيديوهات قصيرة عن التقليد الأرثوذكسي



Orthodox Tradition

Tuesday, May 9, 2017

Agio Cosmos

الإغتراب عن العالم

يتلعثم الإنسان الغير كنسي كثيرأ، لعثمة وجودية قبل أي شئ، عند النظر سواء لنفسه أو للعالم. ففقدان التصور السوي والمكتمل للوجود، سواء المخلوق أو غير المخلوق، هو سمة إنسان هذا المجتمع العدمي الذي أجهض نفسه بالإغتراب عن الألوهة، وعن الخبرة الليتورجية في الكنيسة التي هي الوحيدة القادرة علي شفائه، بالإتحاد بالذي هو مصدر الحياة والنور الغير مخلوقين، الذي بالحب سر بأن يعطيهم للعالم كله.

فبجانب نفسه، نظر الإنسان المتعولم للخليقة نظرة مميكنة، كنتاج للثقافة الغربية التي تنظر الي كل شئ كآلة، كوسيلة لهدف، كشئ يجب أن يُحَقِّق غرضاً ما، وبالتالي يجب أن يخضع للدراسة والتحقيق حتي يدرك الإنسان الحديث ماهية جوهره، وكيفية إستخلاص كل ما يمكن أن يُستَخلَص منه.

 إن الإنسان في سقوطه جعل من كل شئ سبباً لبقائه، هذه هي متلازمة قايين الهارب في الأرض باحثاً عن مأوي  لنفسه من عالم عدو يتهدده، ويتصارعا فيه كلاهما، علي بقاء أحدٍ علي جثة الأخر.

الإنسان الحديث إستطاع بفلسفة الآلة أن يحقق أخيراً  ذلك الإنتصار ويُخضِع العالم تحت قدميه، لم يعد العالم مصدراً للتهديد، تخلص أخيراً من ذلك العدو، أو هكذا توهم. ففي خلال فترة قصيرة من ذلك الإستعباد للخليقة، أدرك الإنسان ولأول مرة تلك الحقيقة التي غابت عنه مع غيابه من تلك الحالة الفردوسية التي كان يحياها في عدن، ألا وهي أن وجود الإنسان ووجود العالم المخلوق كله هو وجود واحد قائم علي الشركة. إدراك هذه الحقيقة أتي بالطريقة الصعبة.
 فالإنسان لم يلتفت الي أنين الأرض الا لما أصيب بأمراضٍ نتاج فساد تربتها، ولم يحرص علي إيقاف نزيف الغابات إلا لما أصبح بقائه، هو شخصياً، مهدداً مع كل شجرة تسقط. وهكذا، يعود الإنسان مرة أخري لتلك الحلقة المفرغة من الصراع للبقاء،
والنظر للخليقة علي أنها مجرد وسيلة لبقائه، يخضعها لإحتياجات منظومته الإستهلاكية، تلك التي تسميها اللغة البشرية الساقطة، حياة.
ولكن في أعماقه، هو فاقد كل أمارات السلام والأمان في تصوره لتفاعله مع الخليقة، فهو يتجنب، قدر الإمكان الإتصال المباشر معها، تاركاً تلك المهمة للآلة التي خلقها علي صورته، وخلقته علي صورتها.



الايكونوميا الالهية




إن الكنيسة الأرثوذكسية تهتم كثيراً في شروحاتها للإيمان أن تبلور علاقاتها بالعالم في شرحها لمفهوم (الايكونوميا οἰκονομία) الذي يعني حرفياً، إدارة منزل\تدبير. إن كل ما يفعله الله داخل إطار الخليقة، كما سنري في كتابات الأباء هو تدبيره لمنزله، الذي هو العالم المخلوق كله. إن تدبير الكنيسة من نحو العالم ، وهو التدبير الإلهي من نحو العالم، ليس تدبيراً خارجياً، ليس تعاملاً مغترباً ومتعالياً مع ما هو خاطئ وفاسد يجب فقط تحويله (conversion) لئلا يهلك مع العالم الذي يوشك الله علي إفناؤه، كما تنادي المناهج الغربية التي نفهم الآن لماذا تتصور هذا التصور عن آلة الخليقة، التي سيتوقف إستخدامها مع بدء إستخدام آلة أخري وهي (الملكوت).
علي العكس من هذا تماماً، الكنيسة تحمل قضية العالم في أحشائها وتتمخض ليولد المسيح في كل ذرة مادة، تحمل أثاراليد الإلهية في خلقتها، والطاقة الإلهية في حياتها ووجودها. كما يقول القديس غريغوريوس بالاماس: (إن الله في الكون، والكون في الله..فكل الأشياء تشترك في قوة الله المحيية، ولكن لا في جوهره.)[1]

 الكنيسة تحب العالم ولا توجد بدونه، الكنيسة لن تترك العالم وتصعد بدونه الي عالم أخر ليهلك هو وتنقذ هي نفسها غير مبالية به، إن كنيسة المسيح متحدة بالعالم في تكوين واحد غير منفصل، إفخارستي، لا يفصله موت أو سيف أو إضطهاد.

ولكن نظرة الكنيسة للخليقة هي نظرة مغايرة لنظرة مجتمعات ما بعد الحداثة التي أتقنت تشيئ الخليقة، وحولت خلاص الخليقة وإنقاذها لقضايا مجتمعية وأخلاقية. 

لذا  يلزم، في هذا السياق وغيره، الإحتراس من إنجراف الكنيسة وراء القضايا المجتمعية، فمهما بلغ نبلها، إلا إنها تظل ليست قضايا الكنيسة. فالكنيسة لا تدعو لإستخدام الأكواب الورقية بدلاً من البلاستيكية، ولا تدعو لنشر العدل والحرية والمساواة، كما يسعي بعض الدهريون أن يذيعوا في محاولاتهم لعلمنة الكنيسة وتدهيرها.

الكنيسة هي الكأس الذي يحمل الحياة للعالم، الحياة الحقيقية التي تشفي الخليقة من أمراضها التي تأصلت في طبائعها في التغرب عن الله، حياة الوحدة الحقيقية. بعكس تيارات الإصلاح الإجتماعي التي تحرر الإنسان من رزح طاغية لتستعبده تحت ماكينة مجتمعات الآلة، وتنقذ الطبيعة فقط لتصبح وسيلة أنانية لبقائها.
إن نظرتنا الأرثوذكسية للخليقة كبيت\موطن غير منفصل عن السماء هو إدراكنا لحقيقتنا الذاتية، التصور الكوزمولوجي غير منفصل إطلاقاً عن التصور الأنثروبولوجي، فكل من الإنسان والعالم يطلق عليهما (كوزموس\كون)، وكون الإنسان هو خليقة مركبة بين المادة والروح، مما يجعله نوس قابل للتأمل الإلهي (الثيوريا). فهو مرآة الخليقة التي هي أيضاً، ليست مخلوقة من مادة صماء، ولكن كما سنري في الفكر الكنسي الحق هي خليقة مدعوة أيضاً للمشاركة في الله، بل وهي بالطبيعة أيضاً في حالة من التأمل الطبيعي (φυσικη θεορια) الذي وإن لم يكن لها وعي (nepsis) كالإنسان، ولكن يصير الإنسان وعيها واللوجوس الخاص بها في وجود واحد متجذر بالله.







الخبرة الصوفية للعالم




إن الكنيسة الأرثوذكسية تري العالم الذي وقفت الملائكة شاخصة نحوه وتصرخ: (قدوس قدوس قدوس رب الجنود، مجده ملء كل الأرض) وتدمج هذا الإعلان كجزء أساسي من ليتورجيتها.

إن الخبرة المستيكية الأرثوذكسية تري الكون غير منفصل عن الله، بل وممتلئ من مجد الله، وحياته، بل تري الحياة في كل شئ، وتحيا بجمال تلك الحياة. يقول القديس نيلوس: (الله هو المركز الحي لكل الأشياء، والحاضر بخفاء في كل الأشياء. أو بأكثر دقة، كل الأشياء هي متجذرة في الله)[2]


هذا الإدراك، الذي هو الوعي بالألوهة الحاضرة في كل شئ، هو من أكثر، إن لم يكن بالفعل أكثر، خبرة محررة وملاقية لكيان الإنسان بالجمال الإلهي في تلك الحياة والتي بعدها. فالذي يختبر الصلاة الهدوئية، يدرك أنه إنما يدخل في تلك الليتورجيا الكونية، التي يمارسها الكون بلا إنقطاع، في ألحان تشارك فيها أوراق الشجر مع أيقونات القيامة في بذارها، وتتوحد بها مع ألوان النور الواحد، المخلوق مرآة غير المخلوق، بحسب تعبير القديس بالاماس، المنعكس بمئات الإبداعات الحية علي كل مخلوق بحسب شخصه، كما كان مار افرام يري سر الصليب في فرخ الطير الذي ينميه الله، ويكمله، وكان يري أيضاً سر الصليب في الثمر الذي يخرج من الأرض، وسر القيامة في الحبة التي تنمو لتصير حياةً[3]. إن هذا المشهد السلامي الذي تصير فيه الليتورجيا (واحدة) بين أيقونة ولحن، غير منفصلان، هو مصدر غير منقطع للإنجذاب الطبيعي للإنسان. لذلك، لا نجد عجباً، في خروج الباحثون عن الله والمشتاقون اليه، طلباً للخبرة النسكية بين أحضان الطبيعة المنعزلة عن الضوضاء، ماذا رأوا هناك؟ ماذا كانت تلك العلاقة بين الراهب المتوحد ونجوم هي أيضاً ساهرة، بين الشيخ الهدوئي والسحاب السابح في سماء نقية كقلبه؟

لقد كانت الطبيعة ولا تزال المعلم الأول للمشتاق للحضور الإلهي، هي منزل الله الكبير الذي يجري اليه الإنسان، بذكري عدن، حتي يدرك ذاك الذي كان يتمشي معه، بين أحضانها.

الدرس الأول والأخير الذي تعلمه الخليقة لإنسان، وربما يكون هو الصفة الأسمي التي تكونت فيها من طابع الله، هو السلام. إن الخليقة ليس بها أي شبهة نزاع. إن الهدوء هو الصفة المشتركة بين أي مكان علي وجه الأرض لم تطئه قدم إنسان متغرب عن الله. إن وقفت علي شاطئ بحر، أو في قلب غابة، أو علي سفح جبل، أو علي ضفة نهر، وتأملت، فإنك تؤخذ تلقائياً بوحدة ذلك المشهد الذي مع تعدد عناصره إلا أنك لا تستشعر فيه إلا السكينة والسلام والإنسجام غير المنثلم. إن طلب الإنسان لتلك المحيطات هو طلبه لتسرب تلك الروح بداخله، وهو سعيه لنوال الهدوئية التي ينطبع بها الكون الأصغر بتأمله في الأكبر. يقول أوريجانوس: (إن الفن الإلهي المتجلي في بنية العالم، كما أنه يري في الشمس والقمر والنجوم، فهو يري أيضاً في كل أجساد الحيوانات ونفوسها، في كل النباتات، التي كلها تحمل سمة الفن الإلهي...بنفس الطريقة، في الكتب التي كتبت بالإلهام الإلهي، العناية الإلهية تعطي الإنسان حكمة فوق بشرية، باذرة في كل حرف بعضاً من الحقيقة المخلصة علي قدر إحتمال الحرف، وراسمة طريق الحكمة. لأنه إن سلمنا أن الله هو الموحي بالكتب المقدسة، فعلينا أن نصدق أن الذين يبحثون في الكتب المقدسة، والذين يبحثون في الخليقة، يصلون للغاية ذاتها.)[4]









البنية النورانية للعالم





 إن الإنسان هو كاهن الخليقة ولكنه ليس خالقها، هو منها، إذ هو إبنها، وعليه أن يدرك ذلك جيداً. إن الله لم يخلق الإنسان سيداً، فبحسب تعبير ذهبي الفم، مفهوم السيادة ظهر بعد السقوط. وإنما هو كاهنها الذي يحملها علي يديه ليقدمها لله بإتضاع ومحبة وإعتراف بتلك الشركة التي بدونها يفني هو قبلها. إن الإنسان هو أخ للحيوانات وشريكها وشفيعها، وهي رفيقته في الوجود وتجمعهما المحبة التي خلق بها هذا الوجود كله والذي تميزها كل عناصره. 

لهذا فإدراك الإنسان لحقيقة المخلوقات هو مرحلة هامة جداً وأولية من إدراكه لحقيقة نفسه وحقيقة الوجود، الله خلق الكون في شركة حياتية، ومنها الشركة المعرفية. المخلوقات كلها في حالة طبيعية من المعرفة (النوسية)، ال(غنوسيس) التي يتميز بها المتأمل في النور الإلهي الذي إتفقنا علي إشتراك الكل فيه، يقول مينوسيوس فيلكس (أحد الأباء المدافعين في القرن الثالث): (علي كل إنسان أن يعرف نفسه، ولكن هذه المعرفة لا يكتسبها إن لم يكن هو أولاً يريد أن يكتسب النظرة الكلية للأشياء، بما في ذلك الله نفسه. ثم بعد ذلك، ومن هذه المنظومة وأساسات العالم نفسها، يأخذ كل إنسان المعرفة التي أرساها الله، والتي هو يحفظها ويعطيها.)[5]

إذاً فحالة المعرفة، أو الإستكشاف الذي يمارسها الإنسان، بالتأمل، لطبيعة الأشياء هي رحلة روحانية، ينجمع فيها ذات الإنسان مرة أخري بدون تنازع بين جانبيه المادي والعقلي. فالحقيقة أنه يستكشف ذاته وطبيعته في إستكشافه الطبيعة المخلوقة كلها، الكون الأكبر الذي هو ما إلا صورة مكبرة من الكون الأصغر، الذي هو الإنسان.

لذلك فرؤية النور الإلهي  كعنصر ليس بدخيل علي الخليقة بل هو  في صلب تكوينها، هو جزء كبير من رحلة الإنسان الشفائية، لإسترداد الحياة الفروسية. إنها ليست بقضية فلسفية أكثر منها وجودية، إن وجود الإنسان غير متحقق بعد، فهو لا يزال يتأرجح بين الوجود والعدم، الي أن يثبت في ذاك الذي هو الإفخارستيا الحقيقية. ولكن ثباته في كرمة الآب، الذي هو الإبن القدوس، اللوجوس والحكمة الأزلي، هو ثبات في كل شئ، تجذر في ذلك الذي قيل عنه أن كل شئ متجذر فيه. ولأن الإنسان خلق علي الحالة النورانية فهو غير قابل للإتحاد بالظلمة، التي هي الإنحلال إلي العدم. لذا، فرؤيته للخليقة، كمنظومة نورانية في بنيتها، هي مؤهله الداخلي لمعرفتها حقيقةً، من ثم الإتحاد بها.
. يقول القديس ايفاجريوس: (ان علامة أن الشخص مستعد ليرتقي سلم التكوين الروحي من السلمة الأولي (الممارسة  praktike) للسلمة الثانية (الطبائعphysike  )  التي بها يستطيع رؤية جوهر الأشياء، هو لما الروح تبدأ أن تري نورها الخاص. ولما يقدر أن يصلي بكثرة دون أن يتشتت، وبوعي للقوي الموجودة في النفس، حينئذ فقط يكون الإنسان مؤهلاً ليري العالم كما هو، في الله)[6]

إن هذا الإدراك هو إدراك متسامي، رؤية Transcedental للخليقة ومشاركة في تكوينها بهذه الصورة، إن هذا الإدراك هو إدراكاً روحانياً أي أنه تناضح النوس المستنير بالنور الإلهي والحكمة التي خلقت العالم، في إنكشاف تلك الحقيقة بعينها، أن العالم يحمل في طياته بذار اللوجوس. إن الألوهة هي في الحقيقة محتضنة العالم، هذه هي حقيقة العالم، أنه متشبث بالله، أنه عالم ،بحسب خلقته، متشح بالنور كله، أنه، كله وليس منطقة بعينها منه، هو الجنة التي خلقها الله ليشاركها حياته يقول القديس اكليمندس السكندري: (بالتأمل..نحن لسنا بعد ننظر الخواص الفيزيائية للأشياء، سمكها، طولها وعرضها. بل ما نراه هو لوحة، وحدة معطة لنا لنتأملها..
فتحت هذا السطح نري عظمة اللوجوس، ونسير لعمق لا محدوديته حتي نري قبساً من العظيم...فتأتي لنا نعمة الفهم من الله من خلال الإبن...لأن موسي يدعو الحكمة رمزياً "شجرة الحياة" المزروعة في وسط الجنة. أوليست هذه الجنة هي العالم الذي فيه كل الخليقة، لأنه هناك اللوجوس صار جسداً، وهناك هو أزهر وحمل ثمراً؛ وهناك هو أعطي حياة للذين ذاقوه.)[7]

إن رؤية شجرة الحياة التي هي في وسط العالم الآن، والتي عادت مرة أخري في وسط الجنة، بالتجسد، هو إختبار هدوئي. هو إنجماع النفس في داخلها لرؤية الكون بعين تري بلا إنقسامات، تري الحقيقة والنور في كل شئ. هنا ندرك أن العالم ككل، هو مدينة الله. أنه مقدس بنيةً وعناصر، أن الإرتحال في دروب هذا العالم هو رحلة روحانية تتطلب وعياً بطبيعة الذات وطبيعة المخلوقات والتصالح بينهما.

يقول القديس باسيليوس: (لكي تتحقق في ذلك المشهد العظيم والمهيب للخليقة، لكي تفهم الحكمة العالية والغير محدودة، يجب أن تجلب نوراً شخصياً (أي هو نور\شخص)  للتأمل في هذه العجائب التي أعرضها أمامك..لئلا تهرب منك الحقيقة.

لماذا هذه الكلمات؟  لأننا نتقدم لندرس العالم ككل، ولنفكر في الكون، ليس في ضوء الحكمة الأرضية، ولكن بتلك التي بها يريد الله أن ينير خادمه

إن كنت أحياناً، في ليلة مضيئة، في شخوصك بعين ملاحظة لذلك الجمال الغير منطوق به للنجوم..إن كنت تسائلت من الذي نقط السماء بتلك الزهور..فأنت رفعت نفسك  بالأشياء المنظورة الي غير المنظور...

أنا سأقودك بنفس الطريقة في العجائب السرية لمدينة الله العظيمة ،أي الكون.)[8]

إن إدراك حضور الله في وسط الخليقة، هو إختبار كنسي جامع، ليتورجي. فالكنيسة إذ تصلي للعالم لا بالنصوص ولكن بقلب محتضن للعالم بداخله، إنما تفعل هذا بإختبار لذلك الإنسكاب للحياة الإلهية علي الكنيسة، وذلك الإنسكاب هو إستنارة الكنيسة وتألهها، الذي هو درب الكنيسة، ومنارتها في حركتها نحو العالم، وضرورتها التي تنبع من أعماقها، بالحب، لحياة العالم كله. في الإفخارستيا لا يعود يميز الإنسان الأرثوذكسي بين أكثر الناس شراً وأقدسهم، بين أشرس المخلوقات وأكثرها وداعة. إن العين التي رأت الله في الخبز الذي إنجمع من فوق سفوح الجبال، هي التي تري الكون كله، محفوظاً بالوجود الإلهي في كل ركن فيه، يقول القديس غريغوريوس النيصي : (لأنه متي تأمل أي أحد الكون، هل يقدر أن يكون ساذجاً للحد الذي به لا يصدق أن الألوهة حاضرة في كل شئ، محتضنة ومنسكبة علي كل شئ؟ لأن كل مخلوق قائم علي ذاك الذي هو كائن، ولا شئ يقدر أن يوجد إلا لو إستمد وجوده من ذاك الذي هو كائن)[9]

إن ضياع هذه الإدراكات  لبنية العالم وتكوينه النوراني، هو فقدان المخلوق العاقل لحياته بكونه عاقلاً، فلا عقل بدون معرفة، ولا أيقونة الهية بدون عقل، ولا وجود بدون ملء تلك الأيقونة الإلهية وتحققها. 
الله لم يخلق الحياة منعزلة أو منغلقة، إنما الحياة هي إتجاه للشركة الجامعة الكل إلي واحد، وهذه الحياة القائمة علي المحبة هي حياة أبدية من الإنكشاف بين الله والخليقة، والإنسان في كهنوته هو مدعو ليشارك الله في كشف حقيقة كل شئ، وإخراج الحياة الكامنة في كل شئ مخلوق، وتحويله الي جسد واحد جامع الكل. كما يقول القديس غريغوريوس النيصي: (فإذ هو في الكل، فإنه يأخذ في نفسه الكل إذ يشركهم في جسده، فإذ يوحد نفسه بالكل، فإنه يجلب الخليقة كلها للتناغم..فتصبح كل الخليقة جسداً واحدا)ً[10]  إذاً فالأمر الجوهري هنا هو هذا، الذي هو الحياة الذي هو في الكل. الذي هو جاء وإتحد بالخليقة كلها لكي يخلصها، أي يصيرها كلها واحداً. هذا هو الذي به خلقت وفيه كائنة واليه محمولة للإتحاد بالألوهة، الذي هو ربنا وخلصنا الذي له كل المجد وهو بإرادته أخلي نفسه، من المجد، ليسبغ، بالحب، الخليقة كلها بالمجد. إن مجد الله مرئي علي أصغر خليقة له كما هو مرئي علي أقدسها، ولكن لمن يستطيع أن يري. فيقول القديس غريغوريوس بالاماس: (الله، الذي يملأ كل الأشياء ويمتد وجوده بلا نهاية أبعد من السماوات، كائن من قبل العالم، كالآن يملأ كل منطقة العالم)[11] هذا يستدعي أن نتوقف عند مفهوم أن العالم منطقة (χώρα) ملء الله، فالعالم هو المساحة الموجدة، وكل ما هو خارج تلك المنطقة من الوجود، هو عدم، لذلك أكبر أسباب العدمية التي تصيب الإنسان المعاصر، هو محاولاته لإجهاض نفسه بالخروج من هذا العالم والإنفصال عنه في ذلك التصور القايني أن العالم هو محيط عدائي، وأن الشركة التي هي حقيقية الوجود، ما هي إلا محض وهم.

إن اللوجوس هو حياة\وجود الخليقة، التي هي تئن لتكتمل خلقتها بالروح القدس، الذي حل عليها في بداية الخليقة، ويحل عليها في قلب الكاهن، وفي بطن العذراء، ليجدد خلقتها وليقدسها ويعطيها الحياة والجمال اللذان لله. فيقول القديس أمبروسيوس: (من يقدر أن ينكر أن الروح القدس هو يعطي الحياة لكل الأشياء؟ بما أن كلا من الآب والإبن، في خلق كل الأشياء، نعلم أنهم لم يفعلوا شيئاً من دون الروح القدس؛ كما أيضاً في بدء الخليقة تحرك الروح علي المياه.

فحين كان الروح يتحرك علي المياه، كانت الخليقة من دون نعمة؛ ولكن بعد خلق هذا العالم، إجتاز في عمل الروح، وإكتسب كل جمال هذه النعمة، التي بها إستنار العالم. ولأنه نعمة هذا العالم لا تبقي بدون الروح القدس، أعلن النبي هذا لما قال: (انك لو تنزع روحك، يموتوا ويتحولوا الي تراب. ترسل روحك فتخلقهم، وأنت ستجدد وجه الأرض كلها) ليس هنا فقط يعلم  أنه لا يوجد مخلوق يحيا بدون الروح القدس، بل وأيضاً أن الروح هو خالق الخليقة كلها.

ومن يقدر أن ينكر أن الخليقة كلها هي عمل الروح القدس، الذي هو عمله أن الخليقة تتجدد؟)[12]
قول القديس أمبروسيوس أن الخليقة تتجدد، هو محور ايكونوميا الخلاص الكوني الذي تجسد اللوجوس ليتممه، كونه خلاص غير نوعي، غير مقتصر علي نوع من المخلوقات، أي الإنسان، كما تتصور الأنانية القايينية. القديس يوحنا ذهبي الفم: (هنا هو، أي المخلص، يوضح لنا بإبهام أن معالم هذا العالم كله تتغير...وأن كل هذه الخلائق ستتغير صورتها وكل الخليقة مدعوة لحياة أعلي)[13]
إن حضور الله داخل الخليقة كما يشدو السيرافيم بشكل (ملء pleroma) وهذا الحضور لا يحفظ للخليقة وجودها بالشكل الظاهري فحسب، بل أن عناية الله هي خلاص الخليقة. إن اللوجوس يدفع الخليقة كلها في درب التأله، إن إشراقة النور غير المخلوق ليست إستاتيكية بأي حال، فالتلاميذ علي جبل ثابور لما عاينوا النور، إذ تجلت حواسهم حسبوا مؤهلين لسماع كلمة الآب والدخول في السحابة الإلهية. وها نفس الأمر هنا بمقياس أوسع في Χωρα الله كلها، إن النور الإلهي يشرق علي الخليقة كلها، فتقف كل المخلوقات في إنذهال لهذا النور العجيب. يقول القديس اكليمندس السكندري: (ففي لطف ورعاية غير منقطعين، إن القوة الإلهية، تشرق بضيائها علي الأرض، مالئة الكون ببذار الخلاص.) [14]
إذاً هو خلاص، كما الخلق، في شركة كوزمولوجية يصير فيها الكل جسداً واحداً. إن الخبرة النسكية هي معايشة الدهر الآتي هنا والآن، لذا نجد أن أبائنا النساك عايشوا حقيقة خلاص الخليقة بالفعل في حياتهم التوحدية.أبدية من الإنكشاف ال


تساء كثيراً قراءة قصص أبائنا القديسين، الذين إمتاز أغلبهم برفقة الخليقة التي سالمتهم، حتي المتوحش منها، في الظن بأن تلك الظاهرة هي نابعة من قداستهم الشخصية، أو أن تلك الهبة خص بها الله أولئك كتكريم، أو كتسهيل لحياتهم. إن هذا سوء قراءة للحياة المخلوقة مهين جداً، إن المخلوقات تشتاق أن تري صورة ذلك الذي إختلي (ليكون مع الوحوش)[15] لتصل معه الي دعوتها التي تعطلت لما توقف الإنسان عن كهنوته الذي يقدمها الي الحياة الأبدية. 

إن الخليقة تقدر أن تميز ذلك الحب والسلام اللذان هما طبيعتها، وتميل بلا وعي لذاك الذي إكتسب هذه الطبيعة لتعطيه كل طاعتها، بلا سيادة أو تسلط. 

يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: (الآن، كيف هي الخليقة؟..انها لا تعود تكون قابلة للفساد، ولكن ترتقي مع الجمال المعطي لجسدك؛ كما أنه وهذا صار قابلاً للفساد، صارت تلك أيضاً؛ فالآن إذ صار ذلك غير قابل للفساد، صارت هي كذلك أيضا)[16]

فبصعود الإنسان لحالة غير الفساد، بالإتحاد بذاك الذي هو غير الفساد وغير الموت، بحسب تعبير القديس اريناوس، فإنها تشتاق أن تشاركه تلك الحالة من الخلاص والعتق من رباطات الفساد

يقول القديس سمعان اللاهوتي الحديث: (إن كل الخليقة ستتجدد وتخلص من رباطات الفساد، وهذه العناصر ستنجمع مشتركة معنا وتصبح مشاركة في لمعان النار الإلهية...هل ترون الآن كيف ستتجدد كل المخلوقات بالنيران الإلهية؟)[17]


ميطانيا: صلاة الكون



أيقونة القديس جيراسموس الأردني، وهو يطبب مخلب صديقه الأسد



إن الكنيسة الأرثوذكسية لم تعرف أبداً الصلاة الفردية. لا يوجد أبداً إنسان يصلي وحده، هذا إيمان الكنيسة، التي آمنت بقول السيد أنه يكون دائماً في الوسط، ولأن اللوجوس المتجسد يجمع في جسده الحي كل الأحياء، إذ أن الكل حي، بحياة ذلك الذي أقام الكل في جسده الواحد، فالكل يكون حاضراً بغير إفتراق عند تقديس التقدمة التي تصير بالحقيقة جسداً ودماً محيياً للرب، وتعطي شفائاً وتقديساً للعالم، وشركةً بالله محب خليقته.



هذه الإيكونوميا وضعت تصوراً أوضح لبيت الله، أنه بيت حي، بيت حاضر في الله ومعه في كل حين، بيت منجمع غير منقسم، بيت يجتمع داخل جسده السمائيين مع الأرضيين وتتصالح الأرض والسماء وتصيران خليقة واحدة. 

هذا التصور كان في وعي الكنيسة منذ البدء، في الحقيقة، بتطبيقات أكثر راديكالية بكثير مما نقدر أن نتخيل اليوم. لذا فما سيلي هو حقاً يدخل في نطاق التوبة. توبة الإنسان الذي كان يجب أن يجمع في صلاته كل صلوات الخليقة. يقول ترتليان: (إن البهائم والحيوانات البرية تصلي، وتحني ركبها، وفي خروجها من عرينها تنظر لأعلي الي السماء، وأفواهها غير صامتة، محركة الروح بهذه الطريقة. وبالأكثر، الطيور التي ترفع أنفسها للسماء، وتفرد صليب جناحيها، وهي تقول شيئاً، ما هو إلا صلاة.)[18]

إن نظرة الكنيسة، الخليقة الجديدة، لسائر الخليقة كانت نظرة شركة دائماً. شركة في الوجود المتأله والمتأصل في بنيان العالم ببذور الحقيقة التي تثمر في الكل. لم تنظر الكنيسة أبداً بإستعلاء أو بغير حنو علي الخليقة الغير عاقلة. لا أعلم متي ظهر هذا ولكنه للأسف هو النمط الحالي في التعامل مع الحيوانات وخلائق الله التي تشارقنا مسيرة الوجود، وهذا لنراه خطية عظمي لما نري قول القديس نيكيفوروس: (إن كنت لا تحب الأشجار، فأنت لا تحب الله)[19]

الحب هنا هو بالتأكيد ليس العاطفة المتقلبة والتي تستثار حيناً وتفتر أخريات، فهذا يصيب المجتمعات الحديثة التي يثقل ضمائرها الملوثة، ذنب الحيوات التي تزهق يومياً لرفاهيتها. ولكن الحب المعني هنا هو حب الشركة التي تليق بخليقة الله المقدسة، الواحدة، التي ستصير يوماً كلها مجددة للكمال ومستعلنة كل حقيقة بداخلها، فوإن كانت هذه الحقيقة مستعلنةً الآن بقدر، علي هيئة صلوات ترفعها بأنين لله الذي يعتقها بمجده في بنيه، من فساد ألم بها جراء التغرب الذي أصاب كاهن الأرض، ألا أن سيأتي يوماً نصل لملء الشركة التي لن تعوقها لغةً أو قصور فهم وتواصل بين الطبائع المخلوقة كلها، إذ سنتجلي في الإتحاد بالألوهة، كلنا معاً.

هذا المخاض دائماً، لأسباب سبق وأوردناها، كان جلياً بالأكثر في أولئك الذين إعتزلوا ضوضاء العالم ليصيروا أباءاً للخليقة كلها، فحواسهم التي تنقت بالصلاة كانت أكثر حساسية منا لنور الله في خليقته، ولمحبة تلك الخليقة للإنسان، وحنين الطبيعة كلها للشركة. فنجد أن اللاهوت النسكي كان يضع دائماً في جانب محوري من حياته التواصل مع تلك الخليقة والإندماج معها في حياةً واحدة.  فنجد القديس باسيليوس يصلي لأجل الخليقة قائلاً: 

(لأجل أولئك، أيا رب، البهائم المسكينة

الذين يحملون معنا حمل وحر النهار

ويقدمون حياتهم لأجل حياة الإنسان 

ولأجل الكائنات البرية

الذين أنت خلقتهم

حكماء، أقوياء، وفي غاية الجمال

نحن نتوسل لأجلهم

من رقة قلبك

لأنك وعدت أن تخلص الإنسان والحيوان

يا ربنا، مخلص العالم)[20]



عزيزي القارئ، أنا أتوسل إليك، لأجل خلاص نفسك وخلاص الخليقة كلها، أن يسع قلبك الكل، أن يسع أخيك الإنسان كما الحيوان الضال الذي هو أيضاً، خليقة الله المقدسة. أخي، إن الله وهبك الحياة، كما وهبها لكل الخليقة الجميلة التي أنت في وسطها. إن هذا العالم هو جنة ممتلئة من حياة الله، الذي هو أصلها وساكن أدق تفاصيلها، برغم أنه يسكن في نور لا يدني منه.
 أخي الإنسان، لن تكون حياتك كاملة إلا لما تشارك خليقة الله كلها تلك الحياة، إن هذا موجود في قلبك ونفسك وطبيعتك التي تئن للخلاص الكامل الذي سيسع خليقة الله بكليتها. كن قلباً متسعاً، نوساً لا يحده ضيقاً أو إنغلاقاً، بل يلم بالنور الذي يوجد في كل تجليات الله الذي يهبها بالنعمة لخلائقه.
أخي، أرجوك ألا (تستخدم) الخليقة، بل أن تحبها من قلبك، وأن تصلي معها وبها، وتشفي بجمالها وتستمد سلامها وتناغمها وتحتضنها، فهي أيضاً تتوق لأن تحتضنك.
يقول ماراسحق السرياني: (كن في سلام مع نفسك؛ وستصبح الأرض والسماء في سلام معك. )[21] صديقي، إن سلامك مع ذاتك هو سلامك مع كل شئ أخر، إسعي أن تشفي في الإفخارستيا، وأطلب الشفاء للكل.
 إن كل أباء كنيستنا كانوا يحترقون حباً لأجل خلاص العالم، هذا هو إرثك وحياتك الحاضرة معك وفيك كل أوان تتناول فيه جسد ذاك الذي جمع كل خليقته في جسده الخاص
، يقول ماراسحق السرياني: (ما هو القلب المحب؟ إنه القلب الذي يحترق بنار الحب للخليقة كلها، للناس، للطيور، للحيوانات، للشياطين، لكل الخليقة. هذا الذي يمتلك قلب كهذا لا يمكنه أن يري أو يتصور أي مخلوق إلا وتمتلئ عيناه بالدموع بسبب العطف الرهيب الذي يعتصر قلبه؛ قلباً تطبع بالرقة ولا يستطيع أن يسمع أو يعرف عن ضرر، أو حتي أقل قدر من الألم،  يصيب أياً من المخلوقات. لهذا السبب لا يتوقف هذا الإنسان عن الصلاة لأجل الحيوانات، لأجل أعداء الحق، لأجل أولئك الذين يفعلون به شراً، لكيما يحفظهم الله وينقيهم. إنه حتي يصلي لأجل العظائات والزواحف، تحركه الشفقة الغير منتهية التي تحكم قلوب الذين توحدوا بالله.)[22]

ولتنصت بيقظة، في النهاية، الي القصة التي أوردها للقديس غريغوريوس الكبير، والتي تشمل كل ما قدمناه في إيجاز، إذ يحكي القديس غريغوريوس الكبير في أحد رسائله: (إذ والرهبان نائمون، كان أحد الرهبان يدعي (بندكت) وكان رجل الله، ساهراً. واقفاً أمام نافذته في ظلام الليل، يصلي، وإذ  به بغتةً يمتلئ بنور عجيب باهر، بدد كل ظلمة محيطة، وتوهج بشدة حتي أنه فاق نور النهار. وإذ كان في دهش من هذا النور، شئ عجيب حدث، كما شرحه لاحقاً، لقد رأي العالم كله منجمعاً أمام عينيه كما في شعاع من ضوء الشمس.

هل يمكن أن أن يري بشري العالم بهذه الكيفية؟...نعم، لأنه إن رأت النفس الخالق، كل الخليقة تكون حاضرة أمامها. لأنه متي رأي الإنسان نور الخالق، مهما كان قدر ذلك النور ضئيل، تصبح رؤية كل الخليقة بغير جهد، بنور الرؤية الداخلية، أي التأمل الداخلي، فكل إنغلاقات العقل تنفتح وتتسع في الله لتصبح فوق العالم. في الحقيقة، إن نفس الرائي ترتفع حتي فوق ذاتها، ومتي إرتفعت فوق ذاتها، تتسع في أعماقها، لتسع العالم كله..لذا فإن (بندكت) لما شخص لذلك النور، رأي أيضاً ملائكة صاعدة الي السماء.

فنحن لما نقول أن العالم كله حضر أمام عينيه لا نعني أن الارض أو السماء تقلصا، بل أن عقل ذاك الرائي قد اتسع حتي أنه رأي كل ما هو دون الله، لأنه كان في الله.)[23]






[1] “Topics of Natural and Theological Science,” Section 104, Philokalia,Vol. IV, Faber and Faber, 1995, p. 393.
[2] Dr. Phillip Sherrard, Conference on Modern Science and Traditional Religions, InterFaith Consultation No. 3, St. George’s House, Windsor, UK, Mar 2225, 1996
[3] The Eighteenth Rhythm, Sec. 1-4. In Librart of Fathers of the Holy Catholic Church: Select works of St. Ephrem the Syrian, Vol. 41. Harvard University, John Henry Parker, 1847. Digitalized in 2007, p. 165-169.
[4]  Commentary on Psalm 1, 3 (PG 12, 1081). In The Roots of Christian Mysticism. By Oliver Clement. New City Press, 1995, p. 217.
[5]  The Octavius of Minucius Felix, XVII. In The Ante-Nicene Fathers, Vol. IV. Eerdmans, 1994, p.181.
[6] The Praktikos and Chapters on Prayer: Evagrius Ponticus, Cistercian Publications, Kalamazoo, 1981, pp. 33-34.
[7] Miscellanies V,XI (PG 9:109) as quoted in Olivier Clement, The Roots of Christian Mysticism, 1995, p. 223-224.
[8] Hexaemeron VI.1, “The Creation of Luminous Bodies.” In Nicene and Post-Nicene Fathers, Second Edition Vol. VIII, p. 81-82. Eds. Philip Schaff and Henry Wace. Erdmans, 1989.
[9] Quoted in Andrew Linzey, Compassion for Animals: Readings and Prayers, SPCK Publ., London, 1988, pg. 8.
[10]  In Illud: Tunc ipse filius subjicietur, PG, XL,1317. Quoted in Emile Mersch, the Whole Christ (London: Denis Dobson, 1938), p. 315.
[11] “Topics of Natural and Theological Science,” Section 6, Philokalia, Vol. IV, Faber and Faber, 1995, p. 349.
[12] Of the Holy Spirit, Book II. 5. 32-34.In The Nicene and Post Nicene Fathers, Second Series, Vol. X. Eerdmans, 1989, p. 118-119
[13] Commentary of St. Matthew, chapter V, in Homily XVI:4 in The Nicene and Post-Nicene Fathers, First series, Vol. X, A. Cleveland Coxe translation, 1888, Eerdmans Printing, Co., 1989, p. 105-106.
[14] Exhortation to the Heathen, Ch. 10. In Ante-Nicene Fathers, Vol. II.5. Ed. Alexander Roberts. Cosimo, 2007, p. 202
[15] إنجيل مرقس، الأصحاح الأول، 13
[16] Commentary on the Epistle to the Romans, Homily XIVRom. 8.12-27 inNicene and Post-Nicene Father of the Christian Church, Vol. XI, p. 445. Ed. Philip Shcaff. Erdmans, 1979. (First published in 1889)
[17]  The Sin of Adam, trans. by Theophan the Recluse, Moscow 1892, “How is the whole Creation again to be renewed?” Homily 45:4
[18]  Quoted in Andrew LinzeyCompassion for Animals: Readings and Prayers, SPCK Publ., London, 1988, pg. 7
[19] Quoted in Constantine Cavarnos, Modern Orthodox Saints: Volume IV, “The Life of St. Nikephoros of Chios,” The Institute for Byzantine Studies, Belmont, MA 1976, pg. 30.
[20] Quoted in Andrew Linzey, Compassion for Animals: Readings and Prayers, SPCK Publ., London, 1988, pg. 86

[21]  Mystic Treatises, trans. A.J. Wensinck (Wiesbaden: 1969), p. 8.
[22]  Mystic Treatises XXIII. Quoted in The Virtues: Commitment, Spiritual Practice and Transformation, Michael Crowley, EPIPHANY JOURNAL, Vol. 6.1.(Fall 1985) pg. 55.

[23] Dialogues II:35-38. Quoted in Fullness of Life, By Margaret R. Miles, Wipf and Stock Publishers, 2006, p. 90.