يقول القديس باسيليوس الكبيرأن التوبةهي الخلاص، ولكن عدم الفهم هو موت التوبة [1].
لهذا من أهم الأشياء التي علينا استعادتها هي مكانة ومعني التوبة ك(سر) مقدس في
الكنيسة
الأرثوذكسية.
Metanoia:
قد تعني هذه الكلمة في العربية، أو تترادف مع، كلمة ( التوبة)، ولكن هل ما نعنيه بحكم الثقافة، هو ما كان يقصده ابائنا عند استخدام هذا اللفظ؟
في اليونانية
تتكون كلمة metanoia
من لفظي meta(التي تعني التغير المصاحب بسمو
ارتفاع وتجلي) و noia(المشتقة من الnous).
اي انها تغيير في اتجاه النوس، الانسان الداخلي الغير منقسم الي عقل وقلب ونفس..الخ.
ولكن ما معني تغيير اتجاه؟ وما دافع هذا التغيير؟
اي انها تغيير في اتجاه النوس، الانسان الداخلي الغير منقسم الي عقل وقلب ونفس..الخ.
ولكن ما معني تغيير اتجاه؟ وما دافع هذا التغيير؟
للأسف أحاطت بثقافتنا الارثوذكسية الكثير من العوامل الثقافية الغريبة التي كادت ان تخنقها. من أهم تلك العوامل هو قراءة كل الممارسات الروحية من الناحية ال(قانونية) ومن ثم استخدام الفاظ غريبة تماماً عننا مثل (ذنب) وبالتالي تصورنا عن الميطانويا انها مجرد اصلاح لخطأ ما او استرداد لبر مفقود...
فجدير بالذكر أن لفظ ذنب (ἐνοχή) يكاد يكون غائب بشكل تام عن كل الكتابات الكنسية، ولكن يأتي بدلاً عنه (ἁμαρτία) التي تعني فشل في توجه متحرك نحو هدف معين. هذا هام جداً لفهم ما مثلته الميطانويا لابائنا، فاللاهوت الشرقي لم يتمحور حول الانسان(anthropocentric) وأخطائه وبره...الخ ولكنه كان (theandric) متمحور حول سنرجيا الاتحاد بين الانسان والله النابعة من التجسد، ولهذا الخطية الامارتية هو الفشل في هذا الاتحاد، والميطانويا هو شفاء الكيان الانساني من هذا الفشل.
لهذا نستطيع أن نقول بكل ثقة أن الأرثوذكسية قد قاومت ال(قانونية) بشكل جذري من الأصل.
فالحقيقة أن الميطانويا
ليست (فعل)، هي عبور (pascha) من الموت
للحياة، هي انجراف مع تيار اللوجوس كحياة الذي خرج من القبر، هي معاداة تيارات
الموت التي تنحاز لها نفس الزمني والانحياز للنوس الروحاني الشاخص في وجه الله
الذي يمتلئ برغبة في الله، تتشابه في ازدياد برغبة الله نفسه في الانسان،
لذا هي نتاج اشتياق متبادل. فيقول ق.نيلوس: (ان الله يشتاق لانسانه المحبوب المتغرب عنه كاشتياق عاشق بجنون)[2]
لذا هي نتاج اشتياق متبادل. فيقول ق.نيلوس: (ان الله يشتاق لانسانه المحبوب المتغرب عنه كاشتياق عاشق بجنون)[2]
كل فعل روحي حق هو نتاج حوار بين ما هو زمني وما هو أبدي، حوار داخلي بين السماء والأرض هي الميطانويا ،انها حوار ال(تكوين)، ان هذا الحوار يسعي لان ينتهي، لان لا يعود dialectic بين جانبي كياننا...لذا رأي أبائنا أن أرض التوبة الخصبة هي التوحد، الانجماع الكامل الذي هو غاية كل ممارسة نسكية.
فالميطانويا هي
عودة بالانسان الداخلي الي حالته التي صارت اصلية بتجسد ربنا يسوع المسيح وبكونه أصلاً
جديدا لنا، فبالتوبة لا نسترد فقط حالتنا الاصلية التي كان عليها ادم قبل السقوط
بل نسمو فوق ذلك بما لا يقاس الي الاتحاد بالله بالنعمة التي وهبت لنا في التجسد.
لذا تصير التوبة حركة كيانية تسير بالانسان الي ملئ وغاية وجوده، الامر هنا لا
ارادي- ليس انه متعارض مع الارادة- ولكنه اسمي من كونه اختيار وقتي لفعل يمارس علي
المستوي الديني او النفسي.
لهذا قلنا انه ليس فعل، لان الفعل يستمد وجوده من الارادة. أما الميطانويا بحسب تعبير ق. غريغوريوس الناطق بالالهيات هي (صعود ascension)[3] هي الانتقال من الزمن الي الkairos الذي تتحقق فيه كل مشيئة الله بشكل غير مجتزء...
هذا الارتحال أبدي، غير منتهي. الميطانويا هي حياة مستمدة من الثيوريا الالهية، وهذا ما يجعلها ابدية. وهوما يجعلها تصير رحلة وجودية الي (التحقق)..ما يجعلها حالة غير منقطعة من (الوصول) الدائم.
لهذا قلنا انه ليس فعل، لان الفعل يستمد وجوده من الارادة. أما الميطانويا بحسب تعبير ق. غريغوريوس الناطق بالالهيات هي (صعود ascension)[3] هي الانتقال من الزمن الي الkairos الذي تتحقق فيه كل مشيئة الله بشكل غير مجتزء...
هذا الارتحال أبدي، غير منتهي. الميطانويا هي حياة مستمدة من الثيوريا الالهية، وهذا ما يجعلها ابدية. وهوما يجعلها تصير رحلة وجودية الي (التحقق)..ما يجعلها حالة غير منقطعة من (الوصول) الدائم.
رؤية الميطانويا
كشفاء للنفس بالرجوع الابدي لكونها (نوس) هو مفهوم محوري في فهمنا حياة التوبة
وسرائريتها المقترنة بالاعتراف -الذي سنتحدث عنه في فقرة أخري- ، وهو ما تحدث عنه
باستفاضة الاب الارثوذكسي داماسكين قائلا: (كلما
بقينا في حالة الميطانويا كلما انكشفت لنا اعماق فسادنا، وكلما تنقينا وكلما أيضاً
"خُلِقنا" بالكلمة الصامت في قلوبنا)[4]
وهو ما يجعل من اليقظة (nipsis) أساساً في
حياة الميطانويا،
يقول القديس
نيكفوروس: ( اليقظة هي علامة الميطانويا الحقة، انها
علامة ان خطايانا قد غفرت. انها بداية التأمل ورؤية الله، لاننا نبدأ ان نشعر
داخلياً بالله يكشف عن نفسه لارواحنا، في سلام شديد للروح تصير نفوسنا مسكناً لله
يقبل كل التائبين)
ولا يمكن الفصل
هنا بين اليقظة الروحية وهبة الدموع التي يعطيها الروح القدس ليس فقط كمؤشر علي
حساسية النفس تجاه نقاوتها واتحادها العرسي بالمسيح، ولكن أيضاً كسمة انفتاح النفس
علي ذاتها بشكل صادق (فرجع الي نفسه)[5]
وادراكها للجوع الكياني الذي يصرخ في كل ذرة منها ويئن للاتحاد بالله.
يقول ق.مقاريوس: (ان بالدموع (يعود) الانسان الي الجنة)[6]
يقول ق.مقاريوس: (ان بالدموع (يعود) الانسان الي الجنة)[6]
وهو ما يجعلنا
نتطرق بالتالي لفهم أكثر حيوية، بناءاً علي ما سبق، لسؤال: هل الله يغفر خطايانا
مقابل توبتنا؟
ان الاجابة لهذا
السؤال هي اجابة الكنيسة في الليتورجيا..
يقول ق. يوحنا ذهبي الفم: (هل أخطأت؟ فلتذهب اذاً الي
الكنيسة وتتوب..لأنه في الكنيسة يوجد الطبيب، لا القاضي. لن تجد مسائلة بل دوائاً
لخطيتك)[7]
في القرون الاولي
للمسيحية تشكلت في الوعي المسيحي أهمية حياة التوبة علي المستويين اللاهوتي
والعملي اللذان لم يكون يعتبرا منفصلين. ففي القساوة الظاهرية لتدبيرات التوبة
التي كانت تفرضها الابوة الكنسية علي المخطئين كانت تتضمن الممارسات سواء
بالاعتراف او الممارسات النسكية وعياً شديداً بجوهر المطلوب. فالخطية كانت (الامارتيا)
وليس (الذنب) ولهذا كان يتعامل الاب الروحي مع الخاطئ كمريض مستوجب العلاج لا
كخاطئ مستوجب الحكم. الاستنارة التي كانت في اختيارات ابائنا للالفاظ وللافعال
التي كانوا يشكلوا بها المسيرة الكنسية التي مازلنا نحياها حتي الان، يجب أن تكون
مستمرة فينا بالروح القدس الذي مازال يكمل كياناتنا الي ملئ الله.
لفظ اعتراف الذي
يقترن مع التوبة كسر واحد، يأتي باليونانية بلفظان(ἐξομολογοῦμαι, ὁμολογῶ) واللفظان لا يعنيان اقرار بالخطية، فلم تكن
التوبة متمحورة حول فعل خاطئ قام به الانسان كما قلنا سابقاً، بل كانت نفس اللفظ
المستخدم في تقديم اقرار ايمان. (الاعتراف) في الوعي الكنسي الارثوذكسي ليس
اعتراف بالخطية ولكن اعتراف بالمسيح.
فالمعترف يمارس نفس الحياة الميطانوية (العائدة) التي يمارسها المعترف الذي يقدم حياته في الكولسيوم أو في زنزانة مظلمة. كلاهما يسلكان درب العودة الي الحياة النورانية في الله.
لذا هو لا (يقول) اعتراف، بل يعيد نظره وانجماع توجه كيانه نحو المسيح، فأنا أعترف تعني أنا أري وأشهد وأقبل وأشكر.
(اعترفوا بعضكم لبعض بالزلات، وصلوا بعضكم لأجل بعض، لكي تشفوا) [8]
فالمعترف يمارس نفس الحياة الميطانوية (العائدة) التي يمارسها المعترف الذي يقدم حياته في الكولسيوم أو في زنزانة مظلمة. كلاهما يسلكان درب العودة الي الحياة النورانية في الله.
لذا هو لا (يقول) اعتراف، بل يعيد نظره وانجماع توجه كيانه نحو المسيح، فأنا أعترف تعني أنا أري وأشهد وأقبل وأشكر.
(اعترفوا بعضكم لبعض بالزلات، وصلوا بعضكم لأجل بعض، لكي تشفوا) [8]
هذه هي الميطانويا
الحقيقية، الشفاء من المرض، رأي اباؤنا في المرتد الذي خرج عن الايمان مريض مسكين
قطع نفسه من الشركة وحكم علي نفسه بالموت كما لغصن محتمة عليه اليبوسة بمعزل عن
مياه الحياة الابدية. لذا كان كل تدبير يمارسه الخاطئ هو خطوة الي الثيوريا. خطوة
شفائية therapeutic نحو خلاص النوس الذي سقط مرة اخري لما انقطع عن
الشركة مع جسد المسيح المحيي.
يقول ق. غريغوريوس الناطق بالالهيات: (الاعمال المسيحية هي درجات الارتقاء الي الثيؤريا)[9] لذا الاعتراف العلني في فترة معينة لم يكن بغرض الاذلال ولكن الذات التي اماتت الوجود لتبقي كان لابد ان يقدم لها الدواء المميت لتحيا، لتؤهل للعودة لشركة المسيح في الكنيسة.
يقول ق. ذهبي
الفم: (دعونا نتناول اذاً دواء (التوبة) المخلص،
دعونا نقبل من الله التوبة التي (تشفينا). لأنه ليس نحن الذين نقدم له هذه التوبة،
بل هو الذي يسكبها علينا)[10]
وهنا يتجلي لنا
شركة الكنيسة التي تعترف مع الخاطئ في الكاهن بالمسيح، وتستعيد ذلك العضو المنقطع
بداخلها باحتضان يشابه الحضن الذي لوالدة الاله، ففي كل مرة يعترف الانسان تنحاز
له الكنيسة وتغلب أشد معارك الشر (الوحدة loneliness)
ففي كتابات ق.اشعيا الاسقيطي يقول ان الشيطان (diavallo أصل كلمة devil وتعني المفرق)
ولهذا هو الحركة المضادة للكنيسة التي تسعي ل(تجمع) الكل[11].
ولهذا كان اشتراك
الخاطئ/التائب في الافخارستيا ليس حالة خاصة بل هو اشتراكه بالحقيقة في شركة (
التوبة الجماعية) التي تمارسها الكنيسة ككيان واحد يقر بخطاياه كل قداس، ويعلن ان
جسد الرب ودمه يعطي للانسان كغفران=شفاء لخطاياه. وشفاء ليس لكيانات احادية
منقسمة، بل ان الاتحاد الذي يحدث في الافخارستيا للكنيسة هو أجمل صور الشفاء من
الامارتيا.
لذا فنحن لم ولن
ننظم خطوات الميطانويا بشكل مدرسي الي جوانب تتعلق بالنفس والاخر والله، لأن لم
نتعلم الحياة من ابائنا هكذا ولكن هي عودة الانسان المنجمع الي الملكوت في دفقة
واحدة. في عودة من العدم الي الوجود مساق باشتياق لا يقيد، انسان الانفكاك الحر
الذي خرج من كل ما هو مخلوق ليري غير المخلوق ويتشبع سرمدياً به.
يقول الأب ديمترو
ستانيلو: (التوبة هي طريق الحب، فهي لا تخدم الا
الحب. هي تقود من حب غير كافي الي المزيد من الحب)[12]
[1] De Perfectione spirituali 4 PG 31:636B
[2]PG
79:464.
[3] Oration 19,7
PG 35:1049D-1052A
[5](لو 15: 17
[6] Hom.15,
17. Cf. Kontakion and Oikos of Cheesefare
Sunday in Triodion Katanyktikon (Rome 1879, p. 105. Cf. also
the prose-poem by Staretz Silouan in Archim. Sophrony, Wisdom from Mt
Athos (London 1974), pp. 47-55.
[9] Orat.
20.12
[10] De
Poenitentia 7, 3 PG 49:327
[11] Abba
Isaias, Logos 29,4
[12] Orthodox
Spirituality, pp138