Tuesday, November 21, 2017

حياته لي


أيها الروح القدس، الملك الأزلي
يا معطي الحياة غير القابلة للفساد
إنظر برحمةً غير منتهية
على نقائص طبيعتنا.
أنرنا وقدسنا.
دع نور معرفتك
يشرق على قلوبنا المظلمة.
وفي الأواني الترابية لطبيعتنا
لتتجلى قدرتك الفائقة.


الصلاة هي الخلق بلا إنتهاء، هي الفن المطلق. أكثر فأكثر نختبر الشوق إلي الله، فقط ليتبعه سقوط من نوره. مرةً فمرة نعي عدم قدرة العقل على الإمساك به. تأتي لحظات نشعر فيها وكأننا على حافة الجنون. ’أنت أعطيتني قانون حبك ولكنني لا أملك قوة لأحب. تعال وتمم فيّ وصيتك، لأنها أكثر من إستطاعتي. إن عقلي هش جداً ليدركك، ونفسي لا تقدر أن ترى أسرارك. أيامي تمر في صراع لانهائي. أنا مُعَذَّب بخوف فقدانك، لسبب الأفكار الشريرة التي في قلبي‘

أحياناً تلوح لنا الصلاة فنصرخ ’أسرِع إليَّ يا رب‘ ولكن إن لم نترك طرف ثوبه، تأتي المعونة. فلهو حيوي أن نسكن الصلاة، لنضاد العمل المُدَمِّر، والدائم، لتأثير العالم الخارجي علينا.

الصلاة لا تُخفِق في إحياء، بداخلنا، النفس الإلهي الذي تنفسه الله ي أنف آدم، والذي بحسبها صار آدم (نفساً حية). فتبدأ نفوسنا المتجددة في العجب من سر الوجود المتسامي، وفي قلوبنا أصداء تسابيح المُزّمِّر لله عن كل تدابيره.
حينئذ نفهم كلمات المسيح ’أنا أتيت لتكون لهم حياة، ولتكن لهم حياة أكثر‘

ولكن هذه الحياة مليئة بالتناقض، ككل تعاليم الإنجيل. ’لأني جئت لألقي ناراً على الأرض، فماذا أريد، إن بالفعل إضطرمت؟‘. فإن لم نجتز هذه النار التي تأكل الأهواء المفسدة الطبيعة، لا نرى النار تتحول إلي نور، لأنه ليس النور يأتي أولاً، ثم النار، ولكن في حالتنا الساقطة لابد أن الإحتراق يسبق الإستنارة. فدعونا، إذاً، نبارك الله لأجل هذه النار الآكلة.
نحن لا نعلم بالكلية، ولكن على الأقل نعن نعرف ’جزئياً‘ أنه لا طريق أخر لنا ،نحن الفانون، لأن نصير ’أبناء القيامة‘، لأن نَملُك مع المسيح.

فوإن كانت مؤلمة (إعادة الخلق)، وإن كانت مرهقة وجارحة، بل ومُعَذَّبة هذه المسيرة، فإنها مُبارَكة. فإن كان إقتناء المعرفة يتطلب جهادات كثيرة، فإن إقتناء الصلاة بأكثر جهادات يُطلَب.
عندما تصير الأناجيل وكتابات الرسل (حقيقية) لنا، نرى كم كانت ساذجة كل تصوراتنا عن الله وعن الحياة فيه، إذ أن الحقيقة تتجاوز كل تصورات الإنسان. ’عين لم ترى، ولا أذن سمعت، ولا دار بقلب إنسان، ما أعَّدّه الله لأجل الذين يحبونه‘ فإن همسةً من المجد الإلهي تفوق كل الحياة بعيداً عن الله.
ضيق هو الطريق، شائك وملئ بالأسى. إننا لنحتمل التنهد الكثير ونحن سائرون.  الخوف الذي لا مثيل له، والذي هو بدء الحكمة، سيتعلق بقلوبنا وسيحول وجودنا من الخارج إلي الداخل، ليُرَكِّز إنتباهنا على ما يحدث في الداخل. غير قادرين على إتِّباع المسيح، نتوقف في رهبة لأن ’المسيح تقدم التلاميذ، وإذ تبعوه، كانوا خائفين‘
لا أحد منا يقدر أن يهرب من المعاناة إن كنا نولد بحياة جديدة في الله، إن كنا نحوِّل جسدنا الطبيعي لجسد روحي. كما قال ق.بولس ’جسد طبيعي يُزرَع، ينمو جسد روحاني‘. وحدها قوة الصلاة تغلب مقاومة المادة وتحرر نفوسنا من هذا العالم الخامل، العَجِز، لمساحات واسعة مفتوحة مضيئة بالنور.

إن العقل تَغَرَّب بالتجارب التي تقع علينا في جهادنا للصلاة. ليس من السهل أن نتعرف على أسبابها ومصدرها. حتي ندخل إلي ’مسكن الله‘ يمكننا أن نكون مترددين، غير واثقين إن كانت أعمالنا تسر القدوس. إذ أننا لسنا فوق الخطأ، فيمكن أن نفتكر أن بسبب أخطائنا نتعرض للعواصف التي تلاحقنا، مع أنن كان القديس بطرس ذَكَّر المسيحيين الأوائل، في يأسهم، ان ’روح المجد‘ حل عليهم.

شيئاً واحداً فحسب هو غير المعرَّض للشك، أنه ستأتي ساعة وتختفي كل ضيقاتنا وتنتهي. ثم سنري، حينئذ، أن أكثر فترات حياتنا ألماً، كانت أكثرها إثماراً، وستصاحبنا حتى خارج حدود هذا العالم، حتى تكون أساسات الملكوت الذي ’لا يتزعزع‘
إن الإله كلي القدرة دعانا من العدم. بالطبيعة نحن من العدم، ولكن ومع ذلك  نحن ننتظر إكراماً من الله. وفجأةً، يكشف القدوس نفسه في إتضاع بلا حدود. إن الرؤية تُغرِق كياننا ووجودنا كله، فبشكل تلقائي، ننحني في إفتتان. وحتى هذا لا يكون كافياً، فمهما تواضعنا نحن أمامه، لا نضاهي إتضاعه.

إن الصلاة لإله الحب والإتضاع هذا، تصعد من أعماق وجودنا. عندما يمتلئ قلبنا بحب الله، نعي، بوضوح، قربنا منه، وإن كنا ندرك جيداً أننا ما إلا تراب.
فإن في الشكل الظاهر لطبيعتنا، يصف، الإله الذي له عدم الموت، وجوده الذي لا يُرىَ، وهكذا نمسك بالأبدية. بالصلاة ندخل الحياة الإلهية؛ والحياة غير المخلوقة التي تتخللنا، هي أن الله يصلي فينا.

بخلقنا صورته، على شبهه، وضعنا الله أمامه، لا كفعل من أفعاله، خاضعين تماماً له، ولكن ك(حقيقة) حتى بالنسبة له، ككيانات حرة. ولأجل هذا، فالعلاقة بين الله والإنسان مؤسسة على مبدأ الحرية. عندما نستغل هذه الحرية ونخطئ، فنحن ندفع الله جانباً.
هذه الحرية لنتحول بعيداً عن الله هي الجانب السلبي، المأساوي، للإرادة الحرة، ولكنها جزء حيوي إن كنا مزمعين أن نقتني الحياة، التي هي بالحقيقة، إلهية، الحياة التي هي ليست مُقَدَّرة.
لدينا الإختيار بين نقيضين: إما أن نرفض الله، وهذا هو جوهر الخطية، أو أن نصبح أبناء الله. لأننا مخلوقين في صورة الله، فنحن بطبيعتنا نشتاق للكمال الإلهي الذي في أبينا. وعندما نتبعه نحن لا نخضع لتسلط قوة خارجية، ولكن نحن نطيع ميولنا لنحقق كماله.
’كونوا كاملين لأن أباكم الذي في السماء هو كامل‘


أبانا الذي في السماء،
ليتقدس إسمك
أنت أعطيتني أن أقتبل قداستك، ومسرتي أن أكون مقدس فيك.

ليأت ملكوتك
لتأت حياتك الجيدة عليّ ولتدخُل فيّ

لتكن مشيئتك
في أرض وجودي المخلوق، كما في السماء، في ذاتك، منذ الأزل.

أعطنا خبزنا اليومي
الخبز الحقيقي الذي ينزل من السماء، ويعطي حياةً للعالم

وأغفر لنا خطايانا، كما نغفر للذين يخطئون لنا
بالروح القدس أعطني أن أغفر للأخرين، فلا يمنع شئ قبولي لغفرانك.

لا تدخلنا في تجربة
أنت تعلم إعوجاجي، أني دائماً في إستعداد أن أخطئ. إرسل ملاكك ليقف في طريقي خصم، لما أوشك على الخطأ.

لكن نجنا من الشرير
خلصني من قوة العدو المميت، خصم الله والإنسان.



في البداية نُصَلّي لأنفسنا، ولكن لما يعطينا الله، بالروح القدس، فهماً؛ تأخذ صلاتنا أبعاداً كونية. ومن ثم، لما نصلي ’أبانا الذي‘ نحن نفكر في البشرية كلها، ونطلب ملء النعمة للكل كما لأنفسنا. ليتقدس إسمك بين كل إنسان. ليأت ملكوتك على كل الشعوب، ولتصبح حياتهم هي الحياة الإلهية. لتكن مشيئتك: لأن مشيئتك وحدها هي التي توحد الكل في حبك. خلصنا من الشرير، من القاتل الذي، شرقاُ وغرباً، يزرع عداوة وخصومة وموت.
إذ أن بحسب فهمنا المسيحي، الشر كالخير، لا يوجد إلا مع نمط شخصاني من الوجود. بدون هذا النمط الشخصي، لا يكون شر، ولكن فقط عمليات طبيعية.

إن مشكلة الشر في العالم عامةً، وفي الإنسانية خاصةً، تطرح تساؤل عن مدى إشتراك الله في حياة الجنس البشري تاريخياً. كثيرون يفقدون إيمانهم لأنه يبدو أنه، لو كان الله موجوداً، لما أمكن للشر أن يوجد بهذا الجموح، ولما كان هناك إنتشار مريع بهذا القدر للمعاناة. إنهم ينسون أن الله يُقَدِّر حرية الإنسان، التي هي المبدأ الأساسي لخلقته على الصورة الإلهية. فَتَدَخُّل الخالق، لما ينحاز الإنسان للشر، يُعَّد حرماناً للإنسان من إمكانية تحديد الذات، وسيكون مُدّمِّراً له تماماً. ولكن الله يُخَلِّص أشخاصاً وأمماً إن إختاروا السير في طريقه.

قال المسيح ’لم آت لأرسل سلاماً، ولكن سيف‘ و’فرقة‘. المسيح دعانا لحرب على مستوي الروح، وسلاحنا هو ’سيف الروح، الذي هو كلمة الله‘. معركتنا غير متكافئة، بشكل غير معقول. فنحن مقيدي الأيدي والأقدام. نحن لا نجرؤ أن نضرب بسيف أو نار: ذريعتنا الوحيدة هي الحب، حتى من نحو الأعداء. هذه الحرب، التي بلا مثيل، التي نحن منغمسون فيها هي حرباً مقدسةً بالفعل. نحن نصارع مع عدو الإنسان الوحيد، والأخير، الموت. وصراعنا لأجل القيامة التي ستشمل الكون كله.

الرب برر وقدس أجداده بحسب الجسد. هكذا أيضا، كل منا، إن تبعنا المسيح، نقدر أن نبرر أنفسنا في وجودنا الشخصي، بإستعادتنا الصورة الإلهية من خلال التوبة الكليّة، وبهذا نقدر أن نشترك في تبرير أجدادنا وآبائنا. فنحن نحمل في أنفسنا ميراث خطايا كل أسلافنا؛ وبفضيلة الإتحاد الأنطولوجي لكل الجنس البشري، الشفاء لنا يعني الشفاء لهم أيضاً. نحن متصلون بحيث لا يقدر إنسان أن يخلِّص نفسه وحده.

لقد وجدت ان رهبان الجبل الُقَدَّس فهموا هذا جيداً. الراهب هو إنسان كرّس حياته لله؛ وهو يؤمن أنه إن أردنا أن يكون الله معنا وفينا للكمال، لابد أن نعطي أنفسنا له كليّةً، وليس جزئياً. الراهب يزهد في الزواج وإنجاب الأطفال لكي يراقب ويحفظ وصايا المسيح، بقدر الإمكان، حتى الكمال. إن لم يحقق الراهب هدفه، أن يحيا حياته على الأرض في الروح مشاركاً المسيح، فإن رهبنته لم تبدأ بعد. بكلمات أخرى، هو لا يشارك في إستمرار الجنس البشري، بإنجاب أطفال، ولا يشارك في إمتداد الخلود بالإشتراك في أبدية القيامة؟
إنه يسقط من من البعد التاريخي، بإمتناعه عن أن يأخذ موقفاً إيجابياً تاريخياً، أو سياسياً، في خين أنه لا ينتقل وجودياً إلي البعد الروحاني، الفوق تاريخي. وبعدم تحقيق أي إنتصار على المستوي الكوني للحرب الروحية، مع الموت، فهو لا يعين إخوته البشر ليقتنوا التدبير الإلهي.
ولكن، على أي حال، وإن كان الراهب يمكن ألا يصل للكمال المسيحي، فصراعه، برغم كل ذلك، يساعد كل البشرية.

أيها الثالوث القدوس، الآب، الإبن، الروح القدس.
الإله الوحيد، والحقيقة الوحيدة.
كلي القدرة والحياة
يا من وحدك تعطي القوة للمتعبين
وتحفظ الضعيف
يا من، لولاك، يضعف القوي
ويُحنى الثابت
الشباعي سيجوعون
والشُيان الأقوياء يُثنون.
إسمعنا في تضرعنا
وأقمنا لنستحق أن نخدمك
نحن نخاطبك، أسرع لسماعنا وإرحمنا.



عندما يُعطىَ الروح القدس، بالنعمة، للإنسان، ,يُحضِره لإنسان كامل، لقياس قامة ملء المسيح‘، هذا التدبير ينعكس، ليس فحسب على مصير كل الإنسانية، ولكن تأثيره يتجاوز قيود التاريخ وينعكس على كل الحياة الكونية، لأن العالم نفسه خُلِق للإنسان.
عندما نتحول بعيداً عن الدرب الذي حدده المسيح، الذي هو تأله الإنسان بقدرة الروح القدس، كل معنى وجود الإنسان في العالم يختفي.


Archimandrite Sophrony Sakharov (2001) (2nd ed.) His Life is Mine. Chapter 8: The Struggle in Prayer. New York: St Vladimir’s Seminary Press.